الراعية في القاهرة ..... د/ محمد جميح
وبينما أنا سائر بين الأزهر والحسين في طريقي إلى الحي الفاطمي، رآني نجيب محفوظ، صاح بي: إلى أين؟ قلت: جئت من الصحراء. ضحك ضحكته المجلجلة، وقال: أسألك: إلى أين؟ وتجيبني: من أين؟ قل لي إذن: من أين أنت أيها الخارج من صفحات إحدى رواياتي، كأنك أحد الحرافيش، ولماذا يخيل إلي أنني رأيتك ذات يوم تمشي في سبيل "بين القصرين" تقود مجموعة من فتوات حارتنا. قلت دعني من مزاحك أيها الشيخ فما جئت هنا لألتقي أبطال رواياتك. قال: هل سلمت على الحسين؟ قلت: مررت به، ووقفت بين يديه، وسلمت عليه. ومسحت دمعة ممزوجة بطينة كربلاء، ومضيت. وما أن ابتعدت قليلاً حتى سمعت صوتاً أشبه بصوت أبي عبدالله يقول لي: لماذا تبك أيها المحب؟ قلت: يرحمك الله، لو أنك لم تخرج، لما انشطرت روحي شطرين. قال: قدر مضى. وما عار عليَّ أن خرجت، بل العار عليك أن تظل روحك مشطورة كل هذا الوقت. قلت: يا أبا عبدالله: خلق كثير يبكون عليك اليوم. وفاجأني الحسين بقوله: لا تصدقهم. ذهلت لقوله وقلت: كيف؟ قال: إنهم إنما يبكون على أنفسهم لا علي. قلت: كيف؟ قال: هل تصدق أن حزناً يدوم أكثر من ألف عام. قلت: لم أفهم. قال: لن تفهم حتى تعلم أن الذين يبكون علي هم الذين قتلوني، وأن الذين يرفعون دمي اليوم هم الذين سفكوه بالأمس. هؤلاء أيها المحب أشبه بالنائحة المستأجرة. قلت: ولكنهم لا يأخذون على لطم خدودهم أجراً. قال: هذا ما يخيل إليك، ألا فلتحذرهم على نفسك ودينك أيها المريد.
قال محفوظ: دعنا من ذلك، وقل لي: لم أنت هنا؟ قلت: أبحث عنها؟
ضحك محفوظ للمرة الثانية ضحكته المجلجلة، وقال: حتى أنت، تبحث عن "هاء المؤنت الغائب"، يا لك من مسكين. إن مأساتك مأساتان: الأولى أن من تبحث عنه "مؤنث" والثانية أن هذا المؤنت "غائب" أيها التعيس. قلت: يا شيخ نجيب، دعني من أبطال رواياتك، "هاء المؤنث الغائب" التي أبحث عنها ليست في أي من رواياتك، فدع عنك خيال الرواة. قال محفوظ: أخبرني عنها إذن. قلت: إنها الراعية. قال: هل تبحث في "خان الخليلي" عن راعية؟ قلت: حدثتني "الست أمينة" أنها رأتها ذات ليلة خارجة من عند الحسين، تحمل سجادة خضراء، يتبعها سرب من باعة ماء الورد. وهي تنضح عليهم من ماء كلما نضحت عليهم منه التمعت في عيونهم سحب بيضاء، وتراءت مراعٍ خضراء، ولاحت في الأفق ظلال الملائكة. وما أن أنتهيت من كلامي حتى لمحت الراعية خارجة في هالة من النور الأخضر، عبرت الميدان، وانحرفت يميناً. أسرعت خلفها، وأنا لا أكاد أصدق نفسي من الذهول، وصاح محفوظ: إلى أين؟ قلت: إلى اللقاء يا نجيب، الحسين يدعوني إليه.
وبينما أنا أغذ الخطا وراءها، سمعتها تهمهم: إلى كم أظل أقول لك لا تسرع. يا بني خطاك معدودة عليك، فإن عجلت انتهت خطاك سريعاً، تصبر أيها الحبيب. قلت: ما زادني الصبر إلا ضيقاً. قالت: الذين يزدادون بالصبر ضيقاً هم طلبة الصفوف الأولى. يا بني: عندما تصل إلى النهايات المعلقة في الأبهاء، ستزداد بالصبر حكمة. يا بني: ما غبت عنك إلا لكي ألقاك، وما أبطأت عليك إلا لكي تكون فرحتك باللقاء كبيرة. يا بني: ألا ترى أن حلاوة الطعام ليست بمداومته، ولكن بطول الصيام عنه. ألا إن كل طعام لذيذ للجائعين، فافهم ما أقول. قلت: ولكنك أبطأت علي كثيراً هذه المرة. قالت: ما أبطأت عليك، ولكنك أبطأت على نفسك. لم أعِ ما قالت، وواصلت: وغيابك عني ما أسبابه؟ قالت: غيابك عن نفسك.
آه أيتها الخارجة من المسافات البعيدة والأوهام. كم رجني كلامك الليلة، وحرك البحيرات النائمة في أعماق الروح؟ دموع السماء تنهمر، المسافة ما بين الأزهر والحسين تمتليء بالدموع والغيوم والوله. وكيف غبتُ عن نفسي يا سيدة المواجيد ؟ قالت: لأنك تركت الراعية عند الأغنام، وذهبت تبحث عنها في الهايدبارك. يا بني: عندما ترسل عينك بعيداً بحثاً عن الأشياء القريبة لا تراها. يا بني أغمض عينيك عن كل الصور، وسوف تراني، فإذا رأيتني فقد رأيت نفسك. وأضافت: أغمض عينيك حتى لا يراك الناس. قلت: تقصدين حتى لا أرى الناس. قالت: بل أغمض عينيك حتى لا يراك الناس. قلت: كيف؟ قالت: إن الناس لا يرونك إلا إذا نظروا في عينيك، فاغمض عينيك يا بني ترَ نفسك.
قلت بالله عليك يا سيدتي، كلميني الليلة بلغة أفهمها. قالت: لا تهتم للأمر، اسمع واحفظ، وسوف تفهم، فإنك عندما تسمع مني أول مرة يلتبس عليك الأمر، لكن حالك تحول مع كلماتي، ومع الرياضات يكون الفهم. يا بني: المعاني الكبيرة تستعصي على الكلمات مهما كبرت. والذين يحاولون تجسيد المعاني في الكلمات سخفاء، تماماً كالذين يحاولون تجسيد ذات الله في الصور والأحجار. لا تعجل علي ، لا تعجل على الفهم، كل ذلك سيجيء في حينه. يا بني ألا تذكر عندما كنت صغيراً، كيف كنت تتمنى أن تكبر بسرعة. ولما دخلت عالم الكبار روعوك. وهأنت ذا تجري في كل الدروب، بحثاً عن طفولتك الضائعة. قلت: رحيلك السريع هو الذي جعلني أبحث عنك في المراعي الشرقية، والبحار الغربية، وهو الذي جاء بي إلى هذه المدينة الكتظة بالناس والسيارات وأضرحة الصالحين. آه كم لوعني حبك يا سيدة العشق! قالت: إياك أن تحبني كما يحب الآخرون محبوباتهم. قلت: كيف؟ قالت: إذا ظللت متعلقاً بصورتي، فإنك إنما تلثم ضريح الحسين دون أن تصل إلى روحه. قلت: وما العمل؟ قالت: تجاوز الصورة إلى الكلمة، وتخط الضريح إلى الحسين،. قلت: وهل أجدك هناك؟ قالت: تبقى لك مرحلة أخيرة: تجاوز الكلمة إلى المعنى، تجاوز الحسين إلى الله.. إنك إن فعلت، تكون قد خرجت من ضريح العبارة إلى روح الإشارة. وهناك عند الإشارات الخالدة تجدني أقسم المعنى الكبير على الرعاة، وحينها ستنتهي رحلتك إشارة دائمة الدلالات، ومعنى طليقاً من قيود العبارات. وأخذت عصاها وجرابها ونهضت. قلت لا. قالت: بل، لا بد. قلت ما ارتويت بعد؟ قالت: الري هنااك، لا تنس أنك على موعد مع قهوة الأصيل، لم يبق إلا القليل، فلا تعجل. وقبل أن تغيب قالت: يا بني: هناك من يصل إلى المرعى بقلبه، وهناك من يصل بعقله. أصحاب القلوب لا يروقهم طريق العقل للوصول، وأهل العقول لا يفضلون مسالك القلوب في الرحيل. انظر إلى نفسك، وتأما من أي الفريقين أنت؟ اختر طريقك، وكن أنت، ولا تكن يوماً أحداً سواك. وانطلقت سريعاً جهة الميدان. قلت: إلى أين؟ قالت: إلى الحسين، سننتظرك على قهوة الأصيل، فلا تنس السنديانة الخضراء.
منقول